أنا واحدة من الذين يوافقون بشدة على أن القديم أصالة وقيمة ومخزون هام لا يمكن الاستغناء عنه أو حتى استبداله، لكني بالرغم من ذلك أكره الحديث عن الأطلال وعن الزمن الجميل وعن الماضي بشكل مبالغ فيه، فالكل يعرف أن ما يجعل الماضي مميز كونه ماض في طريقه لن يرجع للوراء حتي لكي ينظر إليك النظرة الأخيرة ويذهب من حيث أتى.
فلنتفق عموما على أنه لولا تراكم الأشياء القديمة لما أصبح لدينا تراث ومخزون ثقافي زخم نلجأ إليه وقتما نريد، بل ما كان للحديث وجود أصلاً، فكيف يكون الأمر حديثاً إن لم يكن هناك من قبله آخر قديم؟ هذا دون تكرار الحكمة الشهيرة "أن عقارب الساعة لا ترجع إلى الوراء"، أدرك تماما أن هناك أناس من أجيال سابقة تري حال ما صار عليه العالم الآن وبين ما مضى، ومن الطبيعي أن يستخرجون الفروق بين كلا الصورتين، للأمر عيوبه ومميزاته في نفس الوقت، ومن حقك أن تحقق الاستفادة بما في كليهما وتترك السلبيات على جانب كما وأن من حق كل شخص عاش في مرحلة ما مضت أن يحن إليها وأن يراها أنها أزهي العصور هذا من حقه وأنا أحترم ذلك كثيرا لكن الغلبة هي لعجلة الحياة التي سواء أردنا أن لم نرد تتحرك للأمام.
فمن الملاحظ أن هناك في الحِقْبَة الحالية حنين جارف إلى الماضي علي كافة الأصعدة، ففي مجال الفن يتم الآن إعادة إحياء الأغاني والأفلام والمسلسلات القديمة أو لنقل التراثية بشكل جديد تكريما لما مضى، كما أن عدد كبير من القنوات الفضائية تعرض برامج قد يرجع تاريخها إلي أكثر من 20 عاما مضت وذلك يثبت أن الأصالة يزداد عبقها قوة وصلابة مع الزمن، ولكن جل ما يخشاه المرء هو أن يرغب الناس بالعيش في الماضي فنفقد بذلك الحاضر والمستقبل.
الفكرة هي، إن كان الأمر رغبة في تذكر من كنا عليه بالأمس فلا بأس به، ولكن إن كان يرجع هذا إلي رغبتنا في أن نظل هناك وذلك لأننا نشعر بعدم القدرة علي مواجهة كلّما هو جديد فنحن أمام مشكلة شديدة الْخَطَر، فهذا يسمى تخاذل وتقهقر جماعي مثل طفل اعتاد الدلال وعندما جاء الوقت لتحمل المسئولية ذهب مسرعا ولم يعد، يريد أن يظل في كنف والده يأبى الخروج للعالم ومواجهة الحياة كي لا يصطدم بالواقع الذي ظل هاربا منه مدة طويلة، ولكن لابد للهروب من نهاية.
لذا ... أقول علينا أن نتفهم بأن الماضي لن يرجع إلي الوراء مهما فعلنا وهو مِيزة عظيمة لو نعلم وذلك حتى نتعلم منه الدروس القيمة التي تجعل حياتنا غنية وزاخرة مليئة بالأحداث المتجددة كل يوم، ونحن في أمسِ الحاجة لذلك، كما أننا إذ لم نهتم بالحاضر ونرعاه ونقدر وجودنا به سيذهب إلي كِفّة الماضي دون أن نحصل منه على شئ ذو قيمة ومن ثم يجعل الحمل ثقيل جدا علي ظهورنا بل يجعلنا هذا نواجه مستقبل بلا ملامح.
كلمة أخيرة، أن أجمل ما في الماضي هو الذكريات ليس لذاتها، ولكن لأنها تؤكد علي أننا حظينا بأوقات رائعة وربما أخري لم تكن كذلك، بصرف النظر عن ماهية الذكري ستظل جزء هام من تاريخنا الشخصي وهي إثبات أننا عشنا تفاصيل مميزة في حياتنا هي ما جعلتنا على ما نحن عليه الآن، فكل يوم هو بمثابة إنجاز في انتظار تحقيقه علي أرض الواقع وإضافته إلي سجل إنجازاتك المستقبلية.
تعليقات
إرسال تعليق
يسعدني أن تضع تعليقك هنا حتي أسمع صوتك بحق